كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله: {إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} فالمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوسًا يعبدون الشمس، والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها.
وأما قوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شيء} ففيه سؤال وهو أنه كيف قال: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شيء} مع قول سليمان {وَأُوتِينَا مِن كُلّ شيء} [النمل: 16] فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه: أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا.
وأما قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ففيه سؤال، وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضًا فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم؟ والجواب عن الأول: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان، وعن الثاني: أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض، واعلم أن ههنا بحثين:
البحث الأول: أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه: أحدها: أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا، أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والصئبان، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها: أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه؟ وثالثها: كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان، وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف، ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها: من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ والجواب عن الأول: أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع، وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك.
البحث الثاني: قالت المعتزلة قوله: {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها: أنه متروك الظاهر، فإنه قال: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدودًا ممنوعًا لسقط عنه التكليف، فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب: قد تقدم عنه مرارًا فلا فائدة في الإعادة، والله أعلم.
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن في قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف {ألا} للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف، كما حذفه من قال:
ألا يا اسلمى يا دار ميَّ على البلى ** ولا زال منهلًا بجرعائك القطر

وثانيها: بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون {إلا} أن يسجدوا وثالثها: وهي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء، وعن عبد الله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب ورابعها: قراءة أبي {ألا يَسْجُدُونَ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء في السموات والأرض وَيَعْلَمَ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
المسألة الثانية:
قال أهل التحقيق قوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادرًا على إخراج الخبء عالمًا بالأسرار معنى.
المسألة الثالثة:
الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم، أما القدرة فقوله: {يُخْرِجُ الخبء في السموات والأرض} وسمي المخبوء بالمصدر، وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث، ومن الأرض بالنبات.
وأما العلم فقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا: الإله يجب أن يكون قادرًا على إخراج الخبء وعالمًا بالخفيات، والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلهًا وإذا لم تكن إلهًا لم يجز السجود لها، أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادرًا عالمًا على الوجه المذكور، فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض، وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه، وكل ما كان متناهيًا في الذات كان متناهيًا في الصفات، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات، فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار، فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42] وفي قوله: {للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء في السموات والأرض} وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله: {رَبّيَ الذي يُحْىِ وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وفي قوله: {إِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السموات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام:
{لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] ومن قوله: {فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} ومن قوله موسى عليه السلام: {رَّبُّ المشرق والمغرب} [الشعراء: 28] وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى، وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه، فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال: {رَبّيَ الذي يُحْىِ وَيُمِيتُ} ثم قال: {فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق} وموسى عليه السلام قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] ثم قال: {رَّبُّ المشرق والمغرب} فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السموات على خبء الأرض؟ جوابه: أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظرًا مع من ادعى إلهية البشر، فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السموات، وهاهنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات.
أما قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} فالمراد منه أنه سبحانه لما بين افتقار السموات والأرض وما بينهما إلى المدبر ذكر بعد ذلك أن ما هو أعظم الأجسام فهي مخلوقة ومربوبة وذلك يدل على أنه سبحانه هو المنتهى في القدرة والربوبية إلى ما لا يزيد عليه، والله أعلم.
المسألة الرابعة:
قيل من {أَحَطتُ} إلى {العظيم} كلام الهدهد وقيل كلام رب العزة.
المسألة الخامسة:
الحق أن سجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعًا وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهما لأنهم أجمعوا على أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة، وهذا واحد منها ولأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك فثبت أن الذي ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد غير ملتفت إليه.
المسألة السادسة:
يقال هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ جوابه: نعم إذا خفف وقف على {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 24] ثم ابتدأ بألا يسجدوا وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدد لم يقف إلا على العرش العظيم. اهـ.